مفكر إسلامي
خاص لـ هات بوست :
مضى منذ أيام ما يسمى “عيد الحب” وتناولته مجتمعاتنا بقدر كبير من الاهتمام، يتجاوز ما هو عليه الحال في مجتمعات أخرى، ما بين مستهجن ومعاد من جهة ومحتفل من جهة ثانية.
والاستهجان ينطلق غالباً من خلفية دينية على اعتبار أن هذه الأعياد “للكفار” وأنها تشبه بالغرب، ودخيلة على مجتمعاتنا، الهدف منها التشجيع على ارتكاب الفواحش، ويدخل الاحتفال بها ضمن “البدع”، لنصل إلى أن “كل بدعة كفر” وبالتالي يصبح كل من اشترى وردة أو ارتدى اللون الأحمر في هذا اليوم قد دخل في دائرة الحرام.
ووفق ما أعلم فإن “عيد الحب” هو عيد القديس “فالنتاين” الذي عمد إلى تزويج الجنود سراً بعد أن منعهم الإمبراطور من الزواج، وأجد في هذا عملاً نبيلاً في كل العصور والأمكنة، ولا أرى في مبالغة مجتمعاتنا بالاحتفالات أحياناً سوى انعكاس لمدى حاجتها للخروج من القوالب التي أغلقت عليها خلال قرون عدة، لتعاني اليوم من مخاض البحث عن هويتها في كل المجالات، بعد أن تقهقرت الشعارات القومية والوطنية، واصطدمت القناعات الدينية بجدار طالما تخفى تحت ستار الوسطية والاعتدال ليكشف وجهاً مظلماً عرّته داعش ومن لف لفها، ناهيك عن حجم المآسي التي تتعرض لها شعوبنا من قتل ودمار وتشرد، بحيث أصبحت تبحث عن وميض من فرح في لجة كل هذا العتم.
وقد يكون من المنطقي أن نبحث لنا نحن المسلمون المؤمنون برسالة محمد عن يوم أو أيام للحب، ننسى فيها أحقادنا المتوارثة، ونمتنع عن فرز بعضنا البعض إلى ناصبي ورافضي، وزنديق ومرتد، وننظر إلى تاريخنا بما فيه ومن فيه على أنه ماض، له ما له وعليه ما عليه، فلا نترك خلافات عمرها ألف وأربعمائة عام تحضر بيننا، ونذكر أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة ومعاوية والحسين ويزيد على أنهم {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة 134)، ونتطلع إلى الأمام وكأن الرسول الأعظم قد مات أمس وترك لنا كتاب الله كاملاً غير منقوص، لا يحتاج إلى تتمة، فيه هدى ورحمة للناس جميعاً، على اختلاف مللهم ومعتقداتهم، لنجد أننا أولى من غيرنا بحمل لواء المحبة، فالله تعالى قد أكرمنا برسالة بلساننا لنكون سباقين بالخير لا بالعداء، تحت شعار يجمع الإنسانية، يلخصه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13)، والتقوى يدخل ضمنها كل من أراد أن يعمل صالحاً {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62) وفي عمل الخير أبدع ما شئت، فلا حدود لهذا الإبداع.
وقد يكون من المفيد هنا التذكير أن الحرام في كتاب الله واضح، وهو شمولي أبدي بيد الله وحده، والأصل في الأمور الإباحة إلا ما حرم، والمحرمات معدودة ومعلومة، لا تحتاج للف ولا دوران، ولا أن نكتشف فجأة أن ما حرمناه على الناس طوال قرون وحولنا حياتهم إلى جحيم قد أصبح حلالاً بين ليلة وضحاها، فالحرام سيبقى حراماً حتى قيام الساعة، ولا يمكن لأحد أن يحل عقوق الوالدين ولا أكل مال اليتيم ولا قتل النفس ولا الغش ولا قول الزور ولا ارتكاب الفاحشة، وكان الأجدر بالسادة الفقهاء وغيرهم ألا يتقولوا على الله زوراً وبهتاناً، ثم يبحثوا عن فتاوى هنا وهناك لتبرير تراجعهم، ومع ذلك فقد آن الأوان لنعلم أن لا وسيط بين الله وعباده، وكتابه بين أيدينا، لنقرأه ونتدبر معانيه، فنعرف أن الله لم يخلقنا لنتعذب بل لنهنىء بعيش رغيد، عبر تسخير كل ما في الكون لخدمة الإنسانية، لكن تركنا المهمة ل “الكفار” يعملون ويخترعون ويكتشفون ونحن نستهلك، من دواء إلى سيارات إلى تكنولوجيا واتصالات، ثم نلعنهم ونلعن العولمة التي تسمح لهم بمشاركتنا قيمهم وثقافتهم، وهم ماضون قدماً إلى الأمام ونحن ما زلنا نناقش جواز الاحتفال بعيد الحب من عدمه، نترنح تحت صوت عقد ذنب أولها “كل بدعة ضلالة” ولا نكاد نتلمس آخرها، علماً أن كل أعمالنا تتطلب الإبداع، إلا الشعائر فلا بدعة فيها.
فتعالوا أيها المسلمون نتآخى في الإنسانية مع جميع الناس وننظر لهم بعين الحب، ونقدم لهم درساً في قيم رسالة محمد (ص) كما أنزلها الله تعالى وحملها رسوله، وكما يجدر بنا أن نحملها أيضاً.